أخبار وتقارير

كيف وسع الحوثي نفوذه في “حاشد”؟

يمنات – الشارع محمد مسعد دماج
هنا اقتتلت “عذر” و”العصيمات” نحو 30 يوما، وسقط 60 قتيلاً على الأقل من الطرفين، اللذين خاضا الحرب لأسباب مختلفة. لم تقتصر الحرب على القبيلتين الحاشديتين في بروز الحوثي إلى جانب “عذر”، لاسيما أن فتيل الحرب كان قتيلاً من إحدى الأسر الهاشمية، التي يُعرفهم أهالي المنطقة ب “السادة”.
قبل منتصف أغسطس الماضي، وصل مسلحون من “العصيمات” إلى دنان، شرقي القبيلة، لأخذ عبد الله أبو شيحة بالقوة، على خلفية اتهامه بالانتماء والتواطؤ مع الحوثيين. اعترضهم أخوه إبراهيم مصوباً بندقيته إليهم، فأصاب اثنين، قبل أن يُقتل برصاص المسلحين. أخذ المسلحون عبد الله وأودعوه سجن لواء عسكري قريب من المنطقة، فيما أوصلوا جثة شقيقه إبراهيم إلى ثلاجة مستشفى عمران.
تأخذ أسباب الحادثة روايتين مختلفتين. يقول الحوثيون -بمن فيهم أبناء قبيلة عذر- إن “العصيمات” وصلوا لأخذ عبد الله أبو شيحة على خلفية تصويره لسائلة الوادي، ورفعه لشعارهم، فيما يقول مسلحو “العصيمات” إن عبد الله التقط صورا ل “جبل الجانح” وسلمها للحوثيين، في مخالفة لاتفاق قالوا إنهم أجمعوا عليه مع أهالي منطقتهم، يقضي بعدم مناصرة الحوثيين، ويلزم كل من فعل ذلك بمغادرة القبيلة.
ترجع قصة “الجانح”، الواقع في الحدود بين “العصيمات” و”عذر”، إلى بداية الثورة الشبابية، حيث تمترس فيه مسلحو “العصيمات” حينذاك، لمنع تمدد الحوثيين الذين كانوا قد وصلوا “قفلة عذر”، التي تبعد عنه بنحو كيلومتر واحد إلى الغرب. قبل شهرين، ترك مسلحو “العصيمات” مواقعهم، مطمئنين إلى زوال دواعي بقائهم.
إثر حادثة القتل، حكم عدد من مشايخ “العصيمات” عبد الله أبو شيحة بعد إطلاقه من السجن، كاعتراف بالخطأ واستعداد لقبول حكمه في قضية مقتل أخيه إبراهيم. إلا أن حادثة لاحقة فرضت مجرى آخر، ولكل روايته في هذه الحادثة أيضا. يقول الحوثيون إن عدداً ممن حضروا منهم رابع أيام العزاء في بيت أبو شيحة، اعترضهم “العصيمات”، أثناء ذهابهم إلى “وادي دنان” لجلب قاتهم. وفقاً لرواية الحوثيين، فقد أصيب اثنان منهم برصاص أطلقه مسلحو “العصيمات”؛ غير أن “العصيمات” يقولون إنهم ظنوا أن المسلحين الحوثيين، الذين قدموا من “خولان الطيال”، كانوا يتربصون بأحد مشايخهم، لاسيما أنهم، حد قولهم، قد ابتعدوا عن منزل العزاء متوغلين في “وادي دنان”، التابع لمنطقة “العصيمات”، إضافة إلى وجود ثأر سابق بين الطرفين.
مساء، احتشد الحوثيون من “عذر” و”المدان” و”حرف سفيان” وصعدة، و”خولان الطيال”، التي قتل أحد أبنائها لاحقا، يدعى تنظيميا “أبو مختار”. ولأسباب عدة ظهرت الحرب كما لو أنها بين “عذر” و”العصيمات”؛ لكنها كانت بين الحوثيين، بمن فيهم أبناء “عذر” و”العصيمات”.
قرر الحوثيون السيطرة على قرية “دنان”، التي يقطنها غالبية من أبناء “السادة” غير المنظمين للحوثي، والتي ينتمي إليها القتيل إبراهيم أبو شيحة، وتقع فعلياً ضمن منطقة “العصيمات”. اقتحموا القرية ليلاً، وأفضى شجارهم مع سكانها إلى تراجعهم عنها والاكتفاء بالسيطرة على جبلي “الجانح” و”السويدة”، الممتد من القرية جنوبا، والمطل من الغرب على واديها.
استدعى تمترس الحوثيين في “الجانح” و”السويدة” تمترسا مضاداً. في الليلة الثانية، هاجم مسلحو “العصيمات” جبل “السويدة” المطل على “دنان”، وسيطروا عليه، في حين تراجع مسلحو الحوثي نحو 200 متر غربا، معززين أصحابهم في متارس “الجانح”. دارت المعركة أسبوعا، على ساحة لا تتجاوز نصف كيلومتر.
خلال الأسبوع الأول، وصلت أول وساطة يقودها علي حميد جليدان. مكثت 5 أيام، لم تسفر عن أي انفراج، ولم يُبدِ أيٌّ من الطرفين استعداده للصلح، حسب يحيى مجعيض، الذي قال إن جليدان وصل سوق الخميس، وخاطب مسلحي “العصيمات”: “أنتو ما رضيتوا تدوا صلح، وهم ما رضوا”.

برز الحوثيون في الصراع على خلفية مقتل بن “أبو شيحة”، الأسرة الهاشمية التابعة، وفق أعراف البلاد، ل “العصيمات”. تنازعت جبهتا الحرب أبناء الأسرة الواحدة، كما تنازعت أبناء “العصيمات” و”عذر” أيضا.
“مجعيض” و”أبو شيحة” و”كرات” أسر هاشمية تسكن قرية ووادي “دنان” المتعارف عليه أنه “هجرة العصيمات”، في حين أن الأسر الهاشمية: “المتوكل”، “الأعضب”، و”عامر”، تسكن “هجرة عذر”؛ بحسب وجهاء المنطقة.
تداخلت عصبية القبيلة بأصولية المذهب؛ إذ يتعامل كثير من أبناء “العصيمات” مع الحوثيين باعتبارهم “شيعة”، فحدث شرخ في كلتا القبيلتين، وقاتل كلتا القبيلتين عدد من أبنائها، وسقط قتيل على الأقل من أبناء كل قبيلة وهو يقاتل في صفوف الأخرى.
قاتل مع “العصيمات” عدد من “الإصلاحيين في عذر”، بحسب مصلح الوروري، مدير مديرية “قفلة عذر”. وفي حين أكد أحد وجهاء “العصيمات” قتال عدد من أبناء قبيلته إلى جانب “عذر”؛ نفى أن يكون أبناء “عذر” قد قاتلوا في صفهم، مستثنيا أسرة واحدة، قال إنها انتقلت سابقا للعيش في “العصيمات”. وقد ردت هذه الأخيرة جميل “العصيمات” بقتيل من أبنائها.

في الطريق إلى “حاشد” تسأل عن مناطق الاقتتال، فيُرد عليك باستغراب لافت، ثم بنصح مخيف وإلحاح على العودة، في تأكيد على استهداف كل غريب، لاسيما أن مدد المتناحرين، من المسلحين، يصلون من خارج مناطقهم.
بعد ظهر الاثنين قبل الماضي، غادرت العاصمة صنعاء باتجاه عمران. نصحني عدد من الأهالي الذين التقيتهم هناك بالعودة إلى العاصمة، فيما نصحني آخرون بعدم السفر إلى قبيلة حاشد، التي كنت سأصلها ليلاً. بت ليلتي في أحد فنادق مدينة عمران، وفي الصباح اتجهت إلى “قفلة عذر”.
بعد 3 ساعات وصلت مركز مديرية قفلة عذر، الواقع شمال غرب مركز المحافظة. كان حر الشمس لاذعا. نقطة للحوثيين في بوابة السوق لا يقوم مسلحوها بعمليات التفتيش، كما رأيت مسلحيهم يفعلون في صعدة خلال زيارتها في مارس الماضي. لاحقاً أخبرني أحد الحوثيين في “عذر” أنهم يفتشون السيارات المشتبهة، أو المبلغ عنها من قبل “المجاهدين”.
ترتمي المديرية في حضن “جبل القفلة”، الذي يلفها من الغرب. تتربع على الجبل “ديور” قديمة، تبرز معلنة شموخها في الأفق، حتى وهي خالية من أبنائها المتناحرين، الذين ركلتهم باتجاه الأسفل، وظلت تشهد قتالهم الذي لم تجد أمومتها في إيقافه.
قصدت مبنى المديرية، الواقع وسط سوقها، بحثا عن مصلح الوروري، رئيس المجلس المحلي، المنضم للحوثيين وأحد قيادات الحرب، التي لا يزال غبارها مثاراً. كان الوروري يستقبل ضيوفاً في منزله، الواقع بعيداً عن مركز المديرية.
في استراحة مبنى المديرية، كان هناك اجتماع تربوي ترأسه لجنة من الوزارة وتربية المحافظة. مجلس استراحة المديرية مزدحم؛ بالكاد وجدت مكانا جوار شاب يطلق ضبابا كثيفا من سيجارة لا يكاد يطفئها حتى يشعل أخرى.
كان “أحمد هادي صيد” يطرد الدخان بقسوة، كما لو أنه يطرد “الظلم” الذي يقول إن “عذر” احتملته من “العصيمات” طيلة السنوات الماضية، وهو يمجد الحرب التي “ردعت العصيمات.. وعذر لن تصمت بعد الآن”.
جرى، في الاجتماع، نقاش الوضع التعليمي، وتطرقوا إلى الحرب، التي قالوا إنها تسببت في تأخير عملية تسجيل الطلاب وبدء الدراسة.
مثل قناني الماء، كانت البندقيات مستلقية أمام الحاضرين؛ عدا أفراد اللجنة، ومدير تربية المديرية. كان الاجتماع لمدراء مدارس المديرية، الذين يضع معظمهم شعار الحوثي على بندقيته، فيما كان البقية إصلاحيين، أو محايدين، بحسب أحمد، الذي يضع إلى جانب بندقيته “جعبة” بثلاث خزنات ذخيرة، وقنبلة يدوية يبدو غطاؤها غير محكم، لتآكل جسدها الخشبي. كانت القنبلة باعثة على القلق.
غادر أعضاء اللجنة وعدد من المعلمين المسلحين، وواصل بقيتهم النقاش مع مدير تربية المديرية، حسين أبو كحلا، ابن “عذر” التي التهمت 2 من إخوانه في حروبها، أحدهما حاصل على شهادة الماجستير. كان خارج المنطقة أثناء الحرب، و”أبو كحلا” الوحيد هنا لا يحمل سلاحا. تحدثت معه في أكثر من موضوع أثناء خروجنا لتناول العشاء. وكان يُشهد أحمد صيد على صدق ما يقول.
بدت المخاوف أكبر من التوقعات؛ لكنها أقل من تأكيدات رفقاء الطريق. اتضح في ما شاهدته مدى حرية التحرك في المنطقة.

نمت الليل في مبنى المديرية، رفقة أحمد صيد، الذي تكرم بدعوتي للمبيت في منزله البعيد؛ إلا أني فضلت البقاء في مركز المديرية، الذي يبعد نحو كيلومتر واحد عن ساحة المعركة. صبيحة اليوم الثاني، قصدت “دنان”، الواقعة شرقاً. اعتذر أحمد عن مرافقتي؛ كون القرية نقطة تماس الحرب التي توقفت في 15 سبتمبر الفائت، إلا أنها لا تزال قابلة للاشتعال في أي قدح.
عبرت، بمفردي، مزارع ظامئة، وبضعة منازل، فصعود على تل ينتهي بقرية “دنان”، المطلة من الجهة الأخرى على “وادي دنان”. بدت القرية خالية من السكان، باستثناء طفل أشار باتجاه منزل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي فجره الحوثيون، واصلت الطريق الصاعد إلى المنزل، الواقع في أعلى القرية. وحدها كانت بوابة السور الحديدية لا تزال منتصبة، وفي حين انهار المبنى، الذي تختلف الروايات حتى حول عدد طوابقه؛ بين ثلاثة وستة طوابق.
فرّ عدد من أحجار المبنى من خلال بوابة المنزل، التي لا تزال تحتضن، من الداخل، كومة أحجار استطاعت صدها عن الهرب. تجثم أحجار وأخشاب المبنى على بعضها، داخل آثار السور. يقول الحوثيون إن مسلحين من “العصيمات” لا يزالان تحت هذا الركام، بعد أن رفضا الخروج من المنزل وقت إنذارهما بتفجيره؛ غير أن متحدثي “العصيمات” ينفون تواجد أي شخص في المنزل أثناء تفجيره.
نقّلت قدمي على أحجار الركام، المستقرة نوعا ما، خشية ألغام يتوقع أكثر من شخص أنها لم تنفجر، كما لو أنها تتربص بمن لا يحفظ للحرب مهابتها، أو لتُشهد من لم يشهد المعركة. أطللت من على حطام المنزل على “وادي دنان”، الذي يقع امتدادا ل “وادي هبة”، الذاهب شمالا.
في الأسفل يمتد الوادي بضعة كيلومترات، بدءا من حوالي كيلومترين جنوبا، عابرا شرق القرية باتجاه الشمال. يزيد وينقص عرض “وادي دنان” عن كيلومتر واحد. من الغرب تلف الوادي جبال “السويدة” و”دنان”، الذي يحمل القرية، فبقية الجبال بامتداد الشمال. ومن الشرق “جبل مصرخ”، الذي تمترست عليه مدافع “العصيمات”، وتلال على امتداده الشمالي.
قفلت من المنزل جنوبا، قاصدا “جبل السويدة”، الذي كان محور ساحة المعركة. كان عبد الله هادي أبو شيحة، أحد أسباب اندلاع الحرب، يستظل، وآخرون، بإحدى الأشجار المجاورة لبيت آخر تم هدمه بقذائف مدفعية من قبل الحوثيين. قال “أبو شيحة” إنه أخو “الشهيد إبراهيم”، الذي قتله عدد من مسلحي “العصيمات”، في 14 أغسطس الماضي، عندما حاول منعهم من اعتقال أخيه: عبد الله.
كان البيت الذي يستظلون بجواره لعلي أحمد كرات، أحد أبناء الهاشميين غير المنضمين للحوثي. قال “علي” إنه كان في صنعاء عندما علم أن مسلحي “العصيمات” يتمترسون في منزله.

حوالى 200 متر صعودا باتجاه الجنوب، تأخذك من القرية إلى الحافة الشمالية لجبل “السويدة”. برزت أولى خيمتي أفراد الوساطة، الذين استلموا، إثر الصلح، المواقع التي كان يتمترس فيها الحوثيون. قبلها برزت المتارس والخنادق التي حفرها مقاتلو الطرفين، خلال تبادلهم السيطرة على الجبل، حيث إنه ما كان يسترده فريق حتى يبدأ حفر الخنادق.
نُصبت الخيمة جوار أحد الخنادق. لا إشارة على تواجد أحد فيها. تجاوزتها جنوبا، ذاهلا من كميات “مظاريف الرصاص” التي تنافس الحصى في كثرتها. صناديق ذخيرة فارغة، أحذية مترامية للقتلى والجرحى، شيلان وأربطة شاش عليها بقع الدماء، حاملات القذائف المدفعية، بقع انفجارها… كل ما يدل على الحرب ويؤكد انقضاض الموت.
من داخل الخيمة الثانية، صاح بي أحد مسلحي الوساطة، مندهشا: “من أنت؟! ما طلعك؟!”. خرج، إليّ، وآخر كان معه، يحملان بندقيتيهما بوضعية استعداد. اطمأنا لرؤيتي بغير سلاح يبدو جزءا من كيان الفرد هنا. تجولنا معاً على الجبل، المصاب بجروح غائرة؛ كانت خنادقَ ومتارسَ. يحتفظ أفراد الوساطة ببقايا ألغام صنعت محلياً: قطع سنتمترية من أسياخ حديد البناء، وكرات حديدية صغيرة بيضاء (بيرنجات الدراجات الهوائية) مغلفة بشمع أحمر، أكواع مواسير بلاستيكية، وأسلاك كهربائية. قالا إن الحوثيين زرعوا هذه الألغام عرض الجبل، وقتلوا بها عددا من مسلحي “العصيمات” أثناء محاولات هؤلاء السيطرة على “السويدة”.
أبلغتهما عن رغبتي في الصعود إلى “جبل الجانح”، المجاور ل”السويدة”، إلا أنهما حذراني من ذلك تخوفاً من استهدافي بالرصاص من قبل مسلحي الوساطة، الذين تسلموا مواقع المواجهات في الجبل.
قاد الوساطة بين الطرفين الشيخ كهلان مجاهد أبو شوارب، الذي يتزعم إحدى قبائل “حاشد”: “خارف”. استلم “أبو شوارب”، مع المشايخ المشاركين معه في الوساطة، هذا الجبل، وجبل “الجانح” المجاور له غربا، وتركوا فيهما مسلحين يتبعونهم للحيلولة دون تجدد الاشتباكات بين الطرفين. كان قد صدر قرار رئاسي بتشكيل لجنة وساطة لم تضم “أبو شوارب”، ولم تنزل اللجنة إلى منطقة القتال، لإحساسها بالفشل، لعدم صلتها بالأطراف، فعولت على “أبو شوارب” الذي أُلحق باللجنة بقرار رئاسي آخر؛ حسب مصلح الوروري.

لم ينته “الوروري”، ليومين، من استقبال ضيوف بدا أنهم لن يرحلوا. زرته إلى بيته في منطقة “الوراور”، الواقعة إلى الغرب من مركز المديرية بمسافة نصف ساعة تقريباً.
كان لديه العشرات من الضيوف. جلسنا للمقيل، وكان أحمد صيد، الذي رافقني هذه المرة، يعرفني بقيادات “المجاهدين”، الوافدين من مديرية المدان: “أبو اسماعيل” و”أبو صالح”. كانا قائدي منطقتي “السكيبات” و”الظهار”، في “عذر”، أما “أبو حسين”، قائد الحوثيين في مديرية “عذر” بالكامل، فلم يكن متواجداً في منزل “الوروري”. يطلق الحوثيين على مقاتليهم تسمية “المجاهدين”، ولكل منهم اسم تنظيمي خاص به.
انشغل “الوروري” مع قيادة الحوثيين بمناقشة قضايا أبناء المنطقة، الذين يحتكمون أمامهم في عدة قضايا بينها السيارات التابعة ل “العصيمات” التي تم الاتفاق مع لجنة الوساطة على إعادتها إلى أصحابها.
قرأ أحد الحوثيين مقالا عن أهمية شعار “الصرخة”، وكيف أنه “فضح أمريكا، التي لم تسمح بترديده 5 دقائق في كل أسبوع”، في إشارة إلى منع الحوثيين من ترديد الشعار في بعض مساجد العاصمة صنعاء. بالنسبة للحوثيين، فإن من يعترض على ترديد شعاراتهم أمريكي الهوية. ويعد هذا التصنيف مسلمة غير قابلة للنقاش! انتهى الرجل من قراءة المقال، فصرخ الجميع بالشعار.
لم ينه “الوروري” مشاغله قبل الحادية عشرة ليلاً. انتقلنا من مجلس المقيل، الممتدة لأكثر من 15 متراً، والواقع في سور البيت المحصن بقلاع قتالية، إلى مجلس داخل البيت نفسه لنبدأ المقابلة. سرد “الوروري” مجرى الحرب التي دارت، مرجعا أسبابها، عوضا عن قضية “أبو شيحة”، إلى “عنجهة العصيمات، وجهال الشيخ عبد الله، والظلم اللي تحمله أبناء عذر طيلة السنوات الماضية من قطع الطريق وسفك الدماء”. كما أرجع انضمام أبناء قبيلة “عذر” لجماعة الحوثي لهذه الأسباب نفسها.
تحدث عن يوميات المعركة، ودور الوساطة في إيقاف الصراع. قال إن الصلح الذي كانت توصلت إليه الوساطة أوشك أن ينقض بسبب صدور قرار بإقالته من موقعه كمدير للمديرية. عندها، قال إنه رفض نزول مسلحيه من المواقع التي تم الاتفاق على تسليمها لمسلحي الوساطة الذين أحضرهم “أبو شوارب”، مشترطاً وصول محافظ المحافظة، الذي كلف بديلا منه في إدارة المديرية، لاستلام مواقع القتال. حوى اشتراط “الوروري” تهديداً مبطناً، ورفضاً لقرار إقالته. لاحقاً، لم يخف الرجل التهديد الذي تضمنه اشتراطه، مبدياً اعتزازه بقوة موقفة في الحرب، وهو يتحدث عن اضطرار المحافظ إلى إيقاف قرار إقالته، لإتمام الصلح، الذي قال إنه ما كان له أن يتم لولا إيقاف القرار.
“الوروري” يقف اليوم في صف الحوثيين، الذين قال إنه قاتلهم في الحروب الخمس الأولى في صعدة، كضابط في أحد ألوية “الفرقة الأولى مدرع”. برر تبدل موقفه: “الدولة بتعترف بهم واحنا بنقاتلهم”. لا ينكر الرجل تقليص صلاحياته كمدير للمديرية، نتيجة توسع نفوذ الحوثي داخل قبيلة حاشد، بقدر ما يؤكد أنه يتم تنفيذ 85% من أوامره “بالتعاون مع الحوثيين وقيادتهم في صعدة”.
قال إنه كان عليه أن ينضم إلى جماعة الحوثي بعد أن رأى الغالبية من أبناء مديريته قد انضموا إليها، حرصا منه “على مصلحة الناس”. أشاد بدور الحوثي في تأمين المنطقة، ومنع القطاعات القبلية المسلحة، والإصلاح بين القبائل المتقاتلة، التي قال إن الدولة لم تلتفت لصراعاتها الطويلة رغم مطالباته إياها بالتدخل. قال إن آخر قضية احتراب قبلي أوقفها الحوثي بداية دخوله المنطقة، كانت قد حصدت نحو 82 قتيلا خلال 10 أشهر.
يبدي “الوروري” سخطه إزاء سياسات الدولة التي يصفها باللامسؤولة عن أمن وسلامة المواطنين. كان مطلب الأمن أول ما أجاب به “الوروري” عن احتياجات المديرية، التي قال إن الحوثي يسيطر عليها ويحفظ أمنها.
يبدي الرجل ارتياحه تجاه “زوال” سلطة الدولة بسياساتها، التي قال إنها أيئست أبناء المديرية من تحقيق أي مصلحة في أمنهم ومعيشتهم.
“الوروري”، ابن قبيلة “عذر” الحاشدية، لا يخفي أسفه لما صارت إليه قبيلة حاشد، التي “كانت تمسك بزمام اليمن”، محملا “أبناء الشيخ عبد الله، ومسلحي العصيمات المستقوين بمشايخهم” مسؤولية ما حدث من شرخ للقبيلة، قال إنه لن يلتئم.
أما مستقبل مناطق “حاشد”، و”عذر” بالتحديد، فيراه “الوروري” في يد الحوثيين. قال، بيقين: “لا عودة للدولة إلى قفلة عذر ما لم يتولَّ الحوثي حكم اليمن”. قال إن “عذر” في يده، “ولا يمكن لأي بديل عنه أن يُمارس مهامه كمدير للمديرية”. استطرد: “لا تستطيع الدولة تعيين أحد في المناطق التي بسط عليها الحوثيون بأغلبية إلا بموافقة الحوثي”.
يذهب الرجل أبعد من ذلك وهو يؤكد انضمام أغلبية “العصيمات” إلى الحوثي قريباً، مدللا على ذلك بالتواصل الذي قال إنه يجريه مع مشايخ “العصيمات”، الذين هم “مستعدين ومهيئين للانضمام معنا”.
وإذ يدرك “الوروري” أن الحوثي سيواجه صعوبة في تغيير نظام الحكم؛ لا يجد مانعا من القول: “الحوثي يطمح، وفق برنامجه، للإمامة مش على اليمن بس.. بل على ما هو أوسع منها”. كان تصريحه هذا مفاجئاً، فسألته عما إذا كان ما قاله للنشر، فأكد ذلك بلا اكتراث.

يرى “العذريون”، بمن فيهم “الوروري”، أنفسهم في السياق الطبيعي لماضيهم، وهم يرددون أن الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر كان يصفهم دائما بالملكيين، كما “كتب في مذكراته ان احنا ملكيين”.
تطرق مدير “قفلة عذر” إلى المطالب التي قدمها للجنة الوساطة، متمثلة ب “إطلاق الأسرى، وإعادة السيارات المنهوبة، ومنع القطاعات القبلية، والنظر في قضية القتلى”، الذين قال إنهم يزيدون عن 80 قتيلاً، عدا قتلى الحرب الأخيرة التي يتحفظ الحوثيون، و”الوروري”، عن التصريح بعددهم. وبينما تتوافق إجابات أبناء “العصيمات” على نحو 32 قتيلاً منهم؛ ينفي الحوثيون معرفتهم بعدد قتلاهم، ويتحفظ وجاهاتهم عن ذكر ذلك. قال “الوروري” إن قتلى فريقهم في الحرب الأخيرة سيقدمون إلى اللجنة بعد أن تنتهي من المهام التي بين أيديها. أكد بحزم أن قتلى الطرفين لا يتجاوزون ال50 قتيلا.
قد يقرأ، من يتفحص المشهد، انضمام بعض وجهاء “عذر” نزوعا إلى مصالح شخصية وتصفية حسابات مع أطراف في القبيلة نفسها، أو في القبيلة الأم حاشد؛ لكنه سيعرف كم أن فتيان القبيلة متحمسون لفكرة “المسيرة القرآنية” و”الأمة الواحدة”، كما يجيبون، بلهجة قاطعة، كل استنكار أو استفهام عما يحدث. يطلق الحوثيون على مشروعهم مسمى “المسيرة القرآنية”، التي قال عبد الملك الحوثي، في اجتماع عقده، قبل أشهر، مع عدد من وجهاء القبائل، إنه لن يستطيع أحد إيقافها.

في اليوم الرابع من وصولي المديرية زرت وادي دنان، حيث التقيت بعدد من أبناء قبيلة العصيمات القاطنين فيه. كان سوق الخميس أول المناطق التي وصلتها في “دنان”. خلال الحرب؛ تحدثت المعلومات أن هذا السوق كان منطقة مواجهات بين الجانبين، غير أن أثار الحرب فيه كانت بسيطة. كنت أريد زيارة الشيخ أحمد هادي الزجر، أحد قادة الحرب في جبهة “العصيمات”، غير أنه كان في مدينة عمران، برفقة صدام غبير، مدير مديرية العشة.
يواجه أبناء “العصيمات” المصطلحات، التي يطلقها الحوثي على مشروعه، بهزء، ويعتبرونها مجرد “مغالطات”. يرون أن “المسيرة القرآنية” ذريعة للتوسع، ويشككون في جدية عدائه لأمريكا. يرجع مانع زينة، وهو من قبيلة “ذو خيران”، التابعة ل “العصيمات”، أسباب استعادة الحوثيين ل “السويدة” من أيدي مقاتليهم، إلى وجود “ناس بياعين ضمير” داخل “العصيمات”، وهو يؤكد استعدادهم المستقبلي لمواجهة أي اعتداء سيقوم به الحوثيون.
يتوقع “مانع” اختراق الصلح من قبل الحوثيين، ويدلل على ذلك بما قال إنه مشروع الحوثي: “قالوا إنهم ما بايتوقفوا إلا لما العالم كله يصرخ بالشعار حقهم.. يعني حتى أوباما يصرخ” (ضحك هازئاً، وتحول إلى حديث جدي اتهم فيه الحوثيين، و”الشيعة”، بالاتفاق مع أمريكا).
بدأ الرجل من العراق، التي قال إن “أمريكا سلمتها للشيعة”، مستطرداً: “الحوثيين طمسوا الشعارات حقهم في صعدة لما زارهم بن عمر”. قال إن الحكومة طالبت الأمم المتحدة، أثناء حرب الحوثي، بإدراجه في قائمة “التنظيمات الإرهابية فرفضت أمريكا”.
تساءل بثقة: “ليش ما تضربهم أمريكا مثلما تضرب القاعدة؟ لو يجتمعوا القاعدة مثلما يجتمعوا الحوثيين في صعدة ويهتفوا ضد أمريكا؟”، ثم قدم الجواب بالثقة نفسها: “لأنهم متفقين معهم وما فيش بينهم خلاف”.
أما أحمد أبو شيحة، ابن الأسرة الهاشمية، فقد قاتل مع “العصيمات” ضد الحوثيين، الذين قال إنهم قصفوا منزله في “دنان”، أثناء دفاعه عن القرية و”بيت الشيخ”. قال إنه وقف مع قضية ابن عمه (إبراهيم)، الذي قتله مسلحو “العصيمات”، حتى أنه عارض التحكيم القبلي، وطالب بتسليم الجناة؛ غير أن عبد الله، أخا القتيل، وافق على التحكيم، حد قوله.

قاتل يحيى مجعيض في صفوف مسلحي “العصيمات”، الذين يُرجع تراجعهم عن جبل “السويدة”، إلى أنهم “باعوا معابرهم ذي صرفوها لهم، ووصلت عدد المعابر في بقالتين 45 ألف طلقة”.
وأضاف: “الشيخ حسين الأحمر كان يصرف كل ليلة 15 إلى 19 ألف طلقة رصاص لمقاتلي العصيمات، عبر صدام غبير، مدير مديرية العشة، ومشايخ العصيمات”.
وأرجع أحد وجهاء “العصيمات” نتائج الحرب غير المرضية لهم إلى مفاجأتها، وعدم تنظيم صفوفهم. نفى الرجل قتال سلفيين، أو إصلاحيين، من خارج القبيلة، في صفوفهم، مشيراً إلى أن مقاتلين سلفيين كانوا جاهزين للمشاركة في الحرب؛ غير أنهم لم يشتركوا في القتال. قال إن مسلحي قبيلته كانوا “مستهترين، يتركون متارسهم متى أرادوا”.
بدا الرجل واثقا من عدم قدرة الحوثيين على دخول “العصيمات”، التي قال إن الجميع يدرك أهميتها في السيطرة على حكم اليمن، بمن في ذلك الحوثيون، الذين “يحدثون أنفسهم بأنهم إذا استطاعوا السيطرة على العصيمات سيطروا على الحكم”.
وفي رده على اتهامات أبناء “عذر” لأبناء الشيخ عبد الله بدعم مسلحي “العصيمات”، ما تسبب في قبولهم بالحوثي؛ قال إن حسين الأحمر اجتمع، مؤخراً، ب “العصيمات قبيلة قبيلة”، وحملهم رسالة “للناس ذي يتحججوا بأننا ظلمناهم أو سوينا بهم” بأنه مستعد للنظر في مظالمهم.
في اجتماعه مع أبناء “العصيمات” قال حسين الأحمر: “لو كان الحوثي يعطي كل ذي حق حقه، ويحفظ للناس مكاناتهم، كنت بايعته أنا الأول.. الحوثي يظهر غير ما يبطن”، بحسب الرجل.

زر الذهاب إلى الأعلى